الاندماج في ألمانيا بين قررات الساسة وروايات الواقع

In وجهة نظر

لا يخفى علينا جميعاً أن ألمانيا ليست فقط أكبر دولة في الاتحاد الأوروبي من حيث الاقتصاد، بل تعتبر أيضاً الدولة الأكبر في التركيبة السكانية لهذا الاتحاد، فأن حوالي 82 مليون إنسان يعيشون على الأرض الألمانية وما يقرب من 20 مليون مواطن من خلفية مهاجرة، وهو ما يعني أن عشرين بالمائة من سكان ألمانيا قد هاجروا إليها، أو أن الأب أو الأم على أقل تقدير ينتمون لأصول أجنبية. كما أن كل طفل من بين ثلاثة أطفال في ألمانيا قد وُلد في أسرة مهاجرة إلى ألمانيا.

هذا ما يجعلنا نلاحظ أن الهجرة و الاندماج يحضيان في ألمانيا على مدار السنوات الماضية بإهتمام متزايد وخاصة مع التحول الديموغرافي الذي يطرأ على المجتمع الألماني، حيث يبرز هذا الاهتمام من قبل الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات والسلطات المحلية من خلال دعم تعلم اللغة ،العادات ،العمل ،المشاركة الاجتماعية وكذلك استقطاب العمالة المتخصصة من خارج الاتحاد الأوربي وخاصة أصحاب الكفاءات والخبرات والمؤهلات العلمية والمهنية ومنحهم البطاقة الزرقاء وتخفيف الإجراءات البيروقراطية المرهقة للحصول على الإقامة الدائمة ولا سيما الحصول على الجنسية الالمانية.

لكن بالرغم من ذلك، يرى الكثير من خبراء سياسة الهجرة و الاندماج أن هذه البرامج تعد مهمة من أجل اندماج شامل وقد أضحت أكثر أهمية من أي وقت مضى؛ إلا أنه هناك موضوعات رئيسية أخرى بحتة يجب النظر إليها بعين الاعتبار ، بما في ذلك تكافؤ الفرص، التميز العنصري والتمثيل المناسب للفئات الاجتماعية في السياسة والإدارة والأعمال والعلوم والثقافة.

إضافة إلى ذلك وقبل كل شيء؛ جدلية الهوية الاجتماعية وتحديات الاندماج الذي يهيمن على أبناء المهاجرين من الجيل الثاني والثالث، الذي يقف حائراً بين قرارات الساسة وروايات الواقع؛ بين ماضي آبائهم وأجدادهم، ووصولاً إلى هويتهم الحقيقة، وكيف يتم النظر إليهم والتعامل معهم، هل باعتبارهم مواطنين و جزءً بديهياً من هذا المجتمع الألماني متساوي الحقوق والوجبات، و بقطع النظر عن اصولهم وانتماءاتهم العرقية والفكرية والدينية و التحدث معهم بخطاب “ألماني ألماني”؛ ام ستظل إشكاليات المفاهيم مثل مصطلح “من أصول أجنبية” او “خلفيات مهاجرة” (Migrationshintergrund) يرافقهم مدى الحياة؛ وهل من الممكن استبدل هذه المفاهيم والمصطلحات بمفاهيم أخرى او بالأحرى الاستغناء عنها في كثير من النقاشات والحوارات والبروتوكولات المعترف عليها، وهل إذا تم الاستغناء عنها ستتغير النظرة العنصرية و سيُنظر إليهم يوماً على أنهم ألمان الهوية ؟

مثل هذه الإشكاليات و التساؤلات ستظل في أغلب الظن تحديات سياسية واجتماعية مستمرة تشغل بال الكثير من الباحثين والمهتمين وممثلي المؤسسات و اللجان الاستشارية لشؤون الاندماج، الذين يرون أنه من الواجب الاستغناء عنها و الدفع بفتح مؤسسات الدولة الموجهة نحو السياسة المؤسساتية التي تتمتع بالشمولية وتحتوي التعدد و التنوع الاجتماعي، لأن هذا التنوع المؤسساتي في عمل الدولة يرسل إشارة إلى المجتمع ككل، ويعمق الثقة لديه بسياسة دولة تتقبل وتحترم وتراعي وجود هذا التنوع والاختلاف في المجتمع ذا الأطار الواسع، وخاصة المجتمع الحديث، حيث تختلط الاتجاهات الأيديولوجية والفلسفية والدينية.

مع العلم أن التقرير الأخير للجنة الخبراء الخاصة بشؤون الاندماج الذي سلم مؤخراً للمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل يوصي باتخاذ مزيد من الإجراءات ضد العنصرية والتطرف اليميني، الذي لا يمكن مكافحته بمشاريع فردية محدودة الوقت، بل يجب فهمه على أنه مهمة دائمة وينبغي مكافحة هذه الظاهرة على نحو مستدام ومحاربة جرائم الكراهية وبحماية قانونية.

ومن ضمن توصيات لجنة الخبراء التابعة للحكومة الألمانية والمكونة من 24 سياسياً وعالماً، العمل على تكافؤ الفرص التعليمية بشكل خاص هيكليًا ومؤسساتيًا، لان الإقصاء والتهميش والحرمان هي من العوامل المؤثرة على تعزيز التماسك الاجتماعي ككل؛ وخاصة مع تزايد شكاوى الكثير من عدم تكافؤ الفرص في التعليم، و عدم الاستخدام الأفضل لتعزيز مهارات المهاجرين بخلفيتهم الثقافية واهتماماتهم ومعرفتهم العلمية والعملية الذي يعد مكسباً لألمانيا.

و مع تعدد وجهات النظر في التعاطي مع سياسة الاندماج يرى أغلب الساسة في الأحزاب الألمانية المعارضة أن على الحكومة الفيدرالية واجب تجاوز هذه الإشكالات وتمكين الاندماج بدلاً من جعله أكثر صعوبة؛ إلا إن هناك جانب أخر من الأوساط السياسة يلاحظ أن هناك قصور في رغبة الاندماج من قبل الكثير من المهاجرين إلى ألمانيا، وعدم العناية والاهتمام بمستقبلهم الجديد الذي يحتم عليهم التكيف معه بما يحويه من فرص كثيرة مثل الحرية، والمساواة في الحقوق والديمقراطية، والأمن والاستقرار و دعم وتمكين المرأة … إلى آخره.

لكن فِي الأخير يبقى العامل الرئيسي في نجاح الاندماج من عدمه، مرتبط باحترام التعددية الدينية و الثقافية والاختيارات الفردية و الحرية والمساواة، لتصبح سياسة الاندماج هي سياسة المساواة. كما أنه مرهون بالمسؤولية الجماعية لمعالجة أوجه الاختلالات في اطار برامج مستدامة لتحقيق اندماج إيجابي، ولا ننسَ التواصل المستمر مع الآخر والتفاهم والتعايش الجماعي ودعم العمل السياسي الديمقراطي والعمل التطوعي والسعي إلى المشاركة الفعالة داخل المجتمع، بل وقبل كل شيء توفر الدافع الذاتي؛ ما لم تبقى حكاية الاندماج أمر يشكك فيه الكثيرون ما بين الإتهام بالقصور في رغبة الاندماح ، وبين المطالبة بتقبل الأخر والاعتراف في كينونته الثقافية و الدينية و في كلياته الانسانية دون تقزيم او تقليص او حيف او إقصاء.

قائمة الموبايل