اللُّغَة العَرَبِيَّة “تَمْجِيد الحَالِ أَم تَجْدِيد المَقَال”

In وجهة نظر

كلما قرأت مقالة في صحيفة ، أو استمعت إلى حديث عن اللغة العربية ، شُنِّفَتْ آذاني إلى وَقْعِ الألفاظ والعبارات التي يضفيها المتحدث أو الكاتب على اللغة العربية ، فأذوب رقة ولطافة كما ذاب

الشعراء الرومنسيون في أشعارهم الغزلية .

إن المبالغة في اجترار حالة الإطراء ونسج هالة من القداسة على اللغة العربية ما هو إلا شْعِرُ فَخْرٍ حَمَاسِيٌّ ، أو أشبه بتنويم مغناطيسي ينقل خيالنا إلى مدينة أفلاطون ، لنعيش فيها دقائق معدودات ، ثم ما تلبث إغفاءتنا بالاسترسال حتى نصحو على واقع يختلف عن العالم الافتراضي الخيالي المنسوج ، وإذ بنا كنا نعيش حالة حالمة تدغدغ مشاعرنا وتتساوق مع آمالنا العِرَاض .

لا أنكر أن اللغة العربية لغة فصاحة وبلاغة ، ولا يخامرني شك في أنها تثقل بخصائص ومقومات تجعلها عمليا في مقدمة اللغات العالميات ، ولا أشك في أنها لغة تحمل إرثا ثقافيا وفكريا ودينيا ساهمت في تطور الحضارات ونقل المعرفة ، فكل ذلك ليس في موضع الريب ، إذ أكد ذلك غير العرب من المستشرقين وعلماء اللغة الغربيون ، فسيدة علوم الاستشراق (أنَّه ماري شيمِل / Annemarie Schimmel) التي ترجمت القرآنَ الكريم إلى الألمانية قالت عنها ” أنها لغةٌ موسيقيّةٌ للغايةِ ، ولا أستطيعُ القول إلاّ أنها لغةَ الجنّةِ ».
وفي السياق نفسه عبرت المستشرقة الألمانية (زيغريد هونكه / Sigrid Hunke) عن رأيها في العربية بقولها : ” كيف يستطيع الإنسانُ أن يُقاومَ جمالَ هذه اللغةِ ومنطقَها السليمَ وسحرَها الفريد ؟ فجيران العرب أنفسُهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صرعى سحرَ تلك اللغة ” .
أما المستشرق الألماني (كارل بروكلمان / Carl Brockelmann) فرأى أن العربية ” بلغت بفضل القرآن من الاتساع مدىً لا تكاد تعرفه أي لغةٍ أخرى من لغات الدنيا، والمسلمون جميعاً مؤمنون بأن العربية وحدها اللسانُ الذي أُحِلّ لهم أن يستعملوه في صلاتهم …” .
وما قيل من المستشرقين الألمان ينسحب على نظرائهم من الدول الأوروبية ، فمثلا عالم اللغة الفرنسي (إرنست رينان / Ernest Renan) عبر عن وفرة مفردات العربية وغزارة معانيها بقوله : ” تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرةِ مفرداتها ودقّةِ معانيها وحسنِ نظامِ مبانيها، ولم يُعرف لها في كلّ أطوار حياتها طفولةٌ ولا شيخوخةٌ… ” .
أما المؤرخ والمستشرق البلجيكي (جورج سارتون / George Sarton) فذهب أبعد من ذلك حين رأى أن الله ” وهبَ اللغةَ العربيةَ مرونةً جعلتها قادرةً على أن تدوّن الوحيَ أحسنَ تدوين … بجميع دقائقِ معانيه ولغاتِه ، وأن تعبّرَ عنه بعباراتٍ عليها طلاوةٌ وفيها متانةٌ ” .

كل ما تقدم من مدح وثناء ينبغي أن لا يحجب أبصارنا عن الواقع المعيش للغة العربية في العصر الحالي ، التي تحتاج منا أن نكون شاخصي الابصار إزاء رعايتها ونشرها ، والحفاظ على مستقبلها في ظل الأزمة العَصِيبَةِ والتحديات التي تعتريها في عقر دراها أو في دول المهجر .
تأسيسا على ذلك ، يرى كثير من العلماء والمشتغلين بميدان تعليم اللغة العربية لأبنائها أو الناطقين بغيرها ، أنً المدخل الحقيقي والفعال لرفع مكانتها والتمسك بها ، ليس في كثرة التغزل بها وامتداح جمالها والاستماع لما قِـلَ عنها أو الدعوةً إلى التقوقع داخل جدران اللغة الأم…، بل السير نحو ترسيخ دعائمها واعتمادها وسيلةً للانفتاح على بقية الثقافات والحضارات من موقع تنافسيّ متين ؛ لنتمكّن عندئذ من الاندماج بدلًا من الانصهار الحتميّ أو القسريّ في بوتقة حضارة العالم الجديد.

ومن أهم الأمور التي ينبغي الاهتمام بها توسيع مساحة حضور اللغة العربية في تفاعلها مع عصر الثورة المعلوماتية ؛ حتى تتواكب مع العصر الرقمي وهيمنة ثقافة الصورة، ومنجزات جهود التعريب في المجالات العملية والتقنية وذلك من خلال إيجاد قاعدة بيانات على الانترنت ، واستحداث مدونات لغوية عربية ؛ ليجد القارئ ضالته من النصوص والكتب الرقمية في الموضوعات العلمية والثقافية والاجتماعية … إلخ .

ومن جانب آخر ، فإن الحفاظ على اللغة العربية يأتي كذلك عبر استعمالها لدى أبنائها الذين يتحدثون بها بوصفها اللغة الأم ، والابتعاد قدر المستطاع عن استعمال العامية ، أو تطعيم الكلام بكلمات أجنبية ، وتعزيز تعلّمها في الجامعات والمعاهد ، ولا نغفل في هذا الصدد أثر قراءة التراث العربي في تعلم اللغة العربية ، إذ يرى ابن خلدون أن اكتساب بناء طريقة الكلام العربي لا يحصل إلا عبر كثرة الحفظ من كلام العرب ، حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم ، فينسج هو عليها تراكيبه .

أما بوصفها لغة أجنبية ، فإن الأمر يحتاج إلى مزيد من العمل لنرتقي إلى مستوى الطموح ، إذا أردنا أن تكون أداة للتواصل والحوار بين الحضارات والثقافات، وحتى توطد العلاقات الدبلوماسية وتعمّق الروابط التجارية والاقتصادية بين الدول العربية ودول العالم .
إذ ما زالت الجهود في هذا الجانب ينتابها شيء من الاستحياء والإبطاء ، سواء على صعيد الأساليب وطرق تعلمها ، أو على صعيد المناهج التعليمية ، أو فيما يتعلق بطبيعة الموضوعات اللغوية الوظيفية وتراكيبها ومفرداتها المختارة ، التي تقدم للمتعلمين من أبنائها المتواجدين في دول المهجر أو الناطقين بغيرها .

هذا ما ينبغي فعله للحفاظ على مكانة اللغة العربيّة وجمالها وكمالها وعدم تدهور واقعها محلّيًّا وعالميًّا في الزمن الراهن ، وتأثيره على بنية الهويّة العربية وطمس مآثر اللغة العربية وتغييب جذورها التاريخيّة والتخبّط في تعريف مفاهيم الهويّة والثقافة وانهيار منظومة القيم في العالم العربيّ. ومن كان يحبّ اللغة العربية فليفعل شيئا لإعلاء شأنها، لا ليكون الشاهد على تقهقرها ، فهل تُرَانَا مُحْتَاجِينَ إلى تَمْجِيدِ الحَالِ أَم تَجْدِيد المَقَال” ؟

قائمة الموبايل