في مستوى من مستويات الإنسان والمجتمع قد يكون من الصعب فصل وفهم ماهية العقل عن ماهية النفس التي تتبلور من خلال العواطف والغرائز وهذا يحيلنا إلى نظرية الحتمية التي تعتبر من المواضيع الهامة في المجال الفلسفي والديني وهي من القضايا الفكرية الفلسفية الشائكة التي سال فيها الكثير من المداد والمناقشات والجدالات بين مختلف التيارات والمذاهب الفلسفية ،وتكمن أهمية موضوع مقالنا هذا في تعلق الكثير من المواضيع الدينية والأخلاقية والاجتماعية بمفهوم الحتمية والإرادة والحرية فجميع الفلسفات تطرقت إلى هذا الموضوع وتفرعت عنه فروع شجرة الحتمية وتوالدت هذا الأخير من خلال سلسلة من الحتميات ك :الحتمية العلمية والسببية والحتمية البيولوجية واللاهوتية والمنطقية والحتمية التاريخية …إضافة إلى مذهب الملائمة التي تتوافق مع حرية الإرادة وتتلائم مع الحتمية وأنه لا يوجد بالفعل تناقض أو تعارض بين الحرية والحتمية.
ولقد تطرق إلى هذا الموضوع الفلاسفة المسلمون و المتكلمون من خلال عدة زوايا ومناظير والتي تناولت حتمية أفعال الإنسان من خلال نظرية الجبر والاختيار وهي من المواضيع الفلسفية التي شغلت الفكر الإسلامي خاصة بعد التغيرات السياسية والثقافية مع اتساع رقعة الدولة الإسلامية واحتكاكها بحضارات وثقافات والصراع على السلطة الذي خلف العديد من الردود والرفض من جانب الخاصة والعامة وفلسفة التبرير المصاحبة لهذه التغيرات التي حلت مكان الشورى أو الديمقراطية بمفهومها العصري وظهور فرق وتيارات ولعل الفيلسوف ابن رشد الذي تأثر بفكر ابن سينا فيما يخص بأفعال الإنسان ،قد فرق بين العقل المادي والعقل بالفعل والعقل الفعال وهذه العقول و داخل النفس وقد إنتقذ آراء المتكلمين فيما يخص بمسألة الجبر والاختيار وأن الاصل في الإنسان الحرية وهذا ماذهب إليه الإمام الشيخ محمد عبده الذي قال أن الانسان حر بشهادة العقل والشريعة وأن الحتمية ماهي الا عبارة عن أسبقية العلم الإلهي ، ولعل الإمام والفيلسوف أبي حامد الغزالي كان أكثر فهما ربما لآليات الجبرية والاختيارية عندنا قال: ((أننا مجبورين على الاختيار))،وقد فرق الغزالي بين أربع قوى نفسية تقابل كل قوة منها عقلا خاصا،ولعل التراث العرفاني الصوفي كان أيضا من أكثر المذاهب التي تناولت حرية العقل والروح وحتمية القدر المعقدة التي لايمكن أن نحيط بها من جميع النواحي ومحيي الدين ابن عربي هو من أكثر الفلاسفة المتصوفين الذين حاولوا فك شيفرة الحتمية لفهم حدود الترابط بين النفس والعقل وسلوكياته ومنعرجاته الامتداداية.
ولعل أعظم الحتميين المحدثين الفيلسوف باروخ إسبينوزا الذي إعترف بقدرة الإنسان على تصور أي هدف والسلوك في إتجاه ذلك الهدف،فاءنه مع ذلك قد وضع للسلوك الإنساني قانونا عليا يربطنا ببقية العالم الطبيعي ربطا مباشرا ،أما شعورنا بالحرية فما هو إلا وهم،حيث يقول :((إن الناس يولدون جاهلين بأسباب الأشياء فيظنون أنفسهم أحرارا )) ويقول أيضا(( أن أوامر العقل إلا الشهوات ذاتها التي تختلف بالتالي باختلاف الحالة المزاجية للجسم.))
فالحتمية تلغي المسؤولية الأخلاقية عكس الحرية التي تؤكد هذه المسؤولية ومايلحق بها من الثواب والعقاب والتعلق في هذا الموضوع يدخلنا إلى مجاهل المتافيزيقيا الجدالية المتشابكة التي من الصعب حصرها وضبطها لأن الحتمية يمكن تبنيها من قبل الملحدين ومن قبل المتدينين على حد سواء.

بين العواطف والعقل حتمية وحرية
العواطف حاجات حياتية حصلت للأحياء نتيجة تفاعل العقل بحوادث الواقع والغرائز ،عادات عضوية معبرة عن الانفعالات العاطفية والتي تكررت بألوف الأجيال حتى أضحت وتبلورت إلى غرائز لاشعورية موروثة ولم توصف العواطف والغرائز باللاشعور إعتباطا ﻷنها حركات شبه آلية لخلوها من الاستنتاج والاستنباط خاضعة كل الخضوع للعلل المتتابعة.
أما العقل ذو الملكات العقلية الخمس فاءنه شعور حر في تصرفاته كل الحرية لم يخضع لمبدأ العلة والمعلول.
فالعواطف وغرائزها أوجدها العقل عند تفاعل كائنه الحي بالواقع ولم يوجد الواقع الملكات العقلية كما أن الملكات لم تكن معلولة لعلة من العلل الذاتية أو الطبيعية لأنها كل الذات الإنسانية ولو أن ملكات العقل حصلت الواحدة بعد الأخرى بعد أن لم تكن موجودة لقلنا إنها معلولة ولكنها أصيلة في الأحياء بل ولايخلوا أي كائن حي أو غير حي منها بنسب متفاوتة لاعتقادنا بحياة كل دقائق الطبيعة وعقليتها التي يتكون منها الكون العقلي أو العقل العام بعبارة أخرى .
وربما أن سبب حتمية إسبينوزا جهله أو عدم إدراكه بالفرق الجوهري بين عمل النفس أي العواطف والغرائز وعمل العقل أي الملكات العقلية فلا نقول بحرية إرادة العواطف ولكن نقول بحرية العقل وحده فمثلا عندما أتقدم لعمل شيء ما بنتيجة حساب عقلي شعوري إستنتاجي فأنا حر بقدر عدم تدخل عواطفي وغرائزي بهذا العمل ومجبر بقدر تدخل عواطفي وغرائزي،وهذا ماأشار إليه الإمام أبي حامد الغزالي كما سبق ذكره في بداية الموضوع.
فلا نقول بحرية إرادة السكران والصبي والغاضب وهروب الجبان ،فالسكران قد هجر عقله بخمرته فاستحال إلى عواطف خالصة والغضب من العواطف الحتمية وهكذا هرب الجبان من الخوف فالهرب غريزة والخوف عاطفة من العواطف لم تتملكها الإرادة العقلية الحرة.

موقف القرآن الكريم بين الحتمية واللاحتمية
إن موقف القرأن الكريم بين الحتمية واللاحتمية يتضمن الحكمة الغالية لأن الإنسان لم يكن مجبرا كل الجبر ولا مختارا كل الاختيار بل أنه مختار بقدر تدخل عقله بعمله ومجبر بقدر تدخل عواطفه فقوله تعالى :((إنا أهديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا )) والذي يدل على حرية الإنسان لايتعارض مع قوله ((إن الإنسان خلق هلوعا إن مسه الخير منوعا وإن مسه الشر جزوعا )). أي أنه مخلوق على عواطف الهلع والجزع والخوف وإمساك اليد في الإنفاق ولاإستحالة في تدخل عقله للحد من هذه العواطف والتغلب عليها.
ولم يكن الإنسان على شيء من حرية الإرادة لما قال تعالى :((ومايظلم ربك أحدا )).أما قوله تعالى ((فيضل الله من يشاءويهدي من يشاء )).فلا تتضمن معنى التعميم والشمولية،فقد تشاء حكمته أن يضل إنسانا فيورطه بالمشاكل والمنغصات التي تعطيه درسا نافعا قد يهديه إلى الخير ﻹستحقاقه الخير العاجل ومعنى هذا كله يشاء الله فهو إما أن يكون خيرا آجلا أو خيرا عاجلا ﻻستحالة الظلم على مطلق الكمال ولهذا يقال الحمد لله الذي لايحمد على مكروه سواه.
فالعقل مناط المسؤولية الذي عبر عنه الحديث القدسي بمخاطبة العقل ((بك أعاقب وبك أثيب)) ومن باب الامانة العلمية فاءن هذا هذا الحديث اعتبر عند أغلب المحدثين من الأحاديث الموضوعة رغم أن الإمام أبي حامد الغزالي ذكره في كتابه إحياء علوم الدين إلا أن هذا لايمنع أن جزء من الحديث ربما يكون على قدر من الصحة.وقد اعترف الغزالي انه ضعيف في علم صنعة الحديث .
وعلى العموم فاءن الفرق الجوهري بين العقل والنفس (العواطف ) ،لو أن النفس إمتلكت الاستنتاج لأصبحت عقلا آخر ،وبما أن النفس تعمل بملكات العقل ولا ينقصها إلا الاستنتاج لهذا نجد العقل يضعف بقدر هياج النفس وتضعف النفس بقدر تفكر العقل وهذا يدل على وحدتها وإشتراكهما بملكات واحدة وأفكار واحدة.
عبدالحي كريط: كاتب وباحث مغربي
المصادر المعتمدة :
القرآن الكريم
إحياء علوم الدين :ابي حامد الغزالي
الضرورة والاحتمال بين الفلسفة والعلم:السيد النفادي
Filosofía de la mente:artículo autour juan José sanguinete