دور التلاقح الثقافي

In وجهة نظر

قبل الخوض في لب الموضوع يجمل بنا أن ندور دورة حثيثة حول معنى مفهوم الثقافة حتى يتسنى لنا أن نحكم حكما إجماليا ودقيق لايشوبه عوج أو إنحراف.

فالثقافة هي مجموعة من العلوم والمعارف والقوانين الخاصة التي لونتها الأمة بلون قومي خاص مستمد من ذوقها وطبعها وتجاربها الاجتماعية وظروفها الاقتصادية وتراثها العلمي ،فثقافة كل دولة تخالف ثقافات الدول الأخرى في مظهرها وشكلها حسب تعاليم كل مجتمع وتقاليده المتوارثة التي أثرت في تلك الثقافات وطبيعتها بطابع قومي خاص.
ولكن الثقافات تلتقي في أن كل ثقافة،ليست إلا وسيلة من وسائل إرتقاء الأمم والحضارات إلى قمة المجد وذؤابة العزة والكرامة،وإنارة أفكار أبنائها على إختلاف منازعهم وأفكارهم وأهوائهم ومشاربهم.
وليست من شك أن الثقافة العربية الإسلامية غنية بكنوز وجواهر العلم ونفائس المعرفة،وقد بلغت شأوا بعيدا في مضمار التبريز والتقدم والشمول، لكل دقائق العلوم وأسرار المعارف،وقد تغلغل مفكرونا وفلاسفتهم بفكرهم في كل مناحي المجتمع، وجالوا بعقولهم في جنبات الحياة في مهارة وإبداع منقطع النظير ،وأخرجوا لنا اﻵلاف المؤلفة من الكتب والموسوعات في مختلف المجالات ومن كل ذوق ولون ،في إحاطة شبه كاملة ودقيقة.
بيد أننا حينما ننظر في ماضينا القريب والبعيد وفي حاضرنا ،نظرة فاحصة كاشفة من خلال منظور نقدي متوازن  ،نستطيع أن نتبين ونتوصل،أن لاغنى عن ثقافة من سبقونا في مضمار الحضارة والمدنية،وهذا ماتنبه له علمائنا ومفكرونا وفلاسفتنا الأوائل والذين أضافوا الكثير في الثقافة الإنسانية المشتركة ،بل وحافضوا عليها من التلف والنسيان في دهاليز الجهل الفوضي والمقدس الذي كان حاضرا بقوة في بقاع جغرافية كثيرة ،وحملوا هذه الأفكار المستمدة من صميم دينهم الذي يدعوا إلى العلم والمعرفة كأساس تعبدي وأصيل في الإسلام، بل ويشكل جوهره الأساسي للوصول إلى مجتمع معرفي متنوع ومشترك بين جميع بني البشر على إختلاف ألسنتهم وألوانهم وعقائدهم، لأن لغتنا مهما إتسعت آفاقها وترامت أطرافها وتجددت معانيها وأمدتنا ببيانها اﻵخاذ الذي يأسر الأنفاس ويخلب الألباب،وأدبنا وعلومها مهما تغلغل في كيان مجتمعنا وتسلل إلى طوايا صدورنا وشغاف قلوبنا والذي عبر عن مكنونات نفوسنا وخلجاتها فاءن التلاقح الحميمي الذي تخضع له اللغة هو تلاقح ثقافي ينبني على تجارب لسانية ولغوية متنوعة وهي ضرورية ،شرط الحفاظ على سمعتة لغتنا وإحاطتها بأسوار منيعة لكي لاتفقد جوهرها وبريقها (التمييع اللغوي ).

وتجاربنا الثقافية الفكرية مهمها عظمت وتقدمت وأخرجت لنا نفائس الكون وعجائب وجوده ،فاءنا لانستطيع بها وحدها من خلال كل هذه المنظومات المعرفية التي ذكرناها آنفا ،أن نضع أيدينا على كل مافي هذه الحياة من ألوان المعارف والعلوم والفنون .
كما أن عقول غيرنا قد تكشف شيئا،لانكتشفه فنحتاج إلى تبادل المنافع في أشبه مايكون إلى إخصاب ثقافي ودورة ثقافية وفكرية تحتاج إلى المرور في مختلف أطوار المعرفة.
ولقد إستطاع الغرب أن يأخد مهلة في ذلك ،فبحث ونقب وحرث أرض المعرفة بمحراث العزم والإرادة حتى وصل إلى مالم نصل إليه،وكشف عما لم نستطع أن نكشفه ،فنجد أنفسنا محتاجين إلى معارفه ومكتشفاته التي إنبنت على تجارب ثقافات ومعارف الأمم الأخرى خاصة ثقافتنا العربية والإسلامية.
ولابد أن نشير إلى نقطة بالغة الأهمية وهي حول جوهر الإسلام من الناحية المعرفية والثقافية والتي للأسف مازال العديد من الناس الذين يعانون قصورا معرفيا  وفكريا  وإفتقادهم للحس النقدي البناء في تناولهم للتصور الثقافي في الاسلام ويعتقدون ان الاسلام ضد الثقافة والفكر وهذا راجع الى عدم تفريقهم بين مادون في التراث على يد بعض الفقهاء في مراحل تاريخية  وألبسوها لبوس القدسية في ظروف تاريخية حساسة كانت تتطلب تدوين ذلك نظرا للظرفيات السياسية التي مرت على الأمة   وبين ماجاء به  الرسول صلى الله عليه وسلم فمن خلال النظر إلى عدة مواضع قرآنية ونبوية فقد شددت وأكدت على الاستفادة من تجارب الشعوب والثقافات الأخرى  ،فهو لايمنعنا من نشد مختلف المعارف وتناول الفائدة من كل ألوان المعرفة ،لأن الإنسانية يكمل بعضها بعضا ،ولاغنى لها عن تبادل التجارب والمنافع وإن كان كل جزء يظل متميزا عن الآخر بخصائصه الذاتية وطوابعه الاجتماعية.
ولو وقف العالم العربي والإسلامي بفكره ونظره على ماوضعه الآخرون من علوم وفنون وماكشفوه من مطمورات ومخبئات معرفية نفيسة،ثم يسيغ ذلك ويهضمه ويجري في عروقه طلقا ،ستتسع معارفه ويربط إدراكه ويحلق في سماء النشاط الفكري المادي والروحي والاقتصادي والاجتماعي ،وينطلق في ميادين البحث والتنقيب وبالتالي دخولنا في مرحلة إخصاب وتلاقح بالدورة المعرفية الغربية من خلال النهل من روافده الثقافية التي تتناسب مع قيمنا وحضارتنا، شرط وجود بيئة تسمح بذلك وهذا لن يتأتى إلا بوجود إرادة سياسية حقيقية من قبل الأنظمة السياسة  التي تفتقد حاليا إلى مقومات النهوض العلمي والثقافي والفكري الذي يستخدم فقط في الماكياج الخارجي للأنظمة لأن تكريس حالة الجهل الإجباري هو إستمراراية لحالة البؤس السياسي الذي وصل إليه عالمنا العربي وبالتالي إنتاج حالة من التفقير المعرفي والثقافي والفني الذي يكبح منطلقات التقدم والازدهار والمدنية.
بقلم :عبدالحي كريط كاتب وباحث مغربي
الصورة:Mysticsartdesign/pixabay.com/CC0 Creative Commons

قائمة الموبايل